فصل: تفسير الآيات (27- 28):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (12):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} [12].
{يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ} أي: حال ثابتة من فاعل انقلب والأولى خسر ولذلك قرئ {خاسر} أي: ارتد عن دين الله يدعو من دونه آلهة لا تضره، إن لم يعبدها في الدنيا، ولا تنفعه في الآخرة إن عبدها- وقال أبو السعود: يدعو استئناف مبين لعظيم الخسران: {ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} أي: عن الحق والهدى. وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (13):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} [13].
{يَدْعُو} أي: هذا المنقلب على وجهه، إذا أصابته فتنة: {لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} أي: وثناً أو صنماً، ضره في الدنيا بالذل والخزي وفي الآخرة بالعذاب، أسرع إليه من نفعه الذي يتوقعه بعبادته، وهو الشفاعة والتوسل به إلى الله تعالى. فاللام زائدة في المفعول به، وهو مَنْ كما زيدت في قوله تعالى: {رَدِفَ لَكُمْ} [النمل: 72]، في وجه. وذكر أن ابن مسعود كان يقرؤه: {يَدْعُو مَنْ ضَرُّهُ} بغير لام. وهي مؤيدة للزيادة. وضره مبتدأ، وأقرب خبر. وفي الآية وجوه كثيرة هذا أظهرها. وإثبات الضرر له هنا، باعتبار معبوديته. ونفيُه قبلُ باعتبار نفسه. والآية بمثابة الاستدراك أو الإضراب عما قبلها، بإثبات ضر محقق لاحق لعابده، تسفيهاً وتجهيلاً لاعتقاده فيه أنه يستنفع به حين يستشفع به وإيراد صيغة التفضيل، مع خلوه عن النفع بالمرة، للمبالغة في تقبيح حاله، والإمعان في ذمه: {لَبِئْسَ الْمَوْلَى} أي: الناصر له: {وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} أي: المصاحب له.
ولما بين سوء حال الكفرة من المجاهرين والمذبذبين، أعقبه بكمال حسن حال المؤمنين، بقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (14):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [14].
{إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} أي: من الأفعال المبنيّة على الحكمة، التي من جملتها إثابة من أطاعه وتعذيب من عصاه.

.تفسير الآية رقم (15):

القول في تأويل قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [15].
{مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} أي: بحبل إلى ما يعلوه: {ثُمَّ لْيَقْطَعْ} أي: ليختنق: {فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} أي: غيظه. والمعنى من استبطأ نصر الله وطلبه عاجلاً، فليقتل نفسه. لأن له وقتاً لا يقع إلا فيه. فالآية في قوم من المسلمين استبطؤوا نصر الله، لاستعجالهم وشدة غيظهم، وحنقهم على المشركين. وجوز أن تكون في قوم من المشركين، والضمير في ينصره للنبيّ صلّى الله عليه وسلم. والمعنى: من كان منهم يظن أن لن ينصر الله نبيه، فليختنق وليهلك نفسه، ثم لينظر في نفسه، هل يذهبن احتياله هذا في المضارّة والمضادّة، ما يغيظه من النصرة؟ كلا. فإن الله ناصر رسوله لا محالة. قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51].

.تفسير الآيات (16- 17):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [16- 17].
{وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ} أي: القرآن الكريم: {آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} يخبر تعالى عن أهل هذه الأديان المختلفة، أنه يقضي بينهم في الآخرة بالعدل. فيدخل من آمن منهم به وعمل صالحاً، الجنة. ومن كفر به، النار. فإنه تعالى شهيد على أفعالهم، حفيظ لأقوالهم، عليم بسرائرهم وما تكنه ضمائرهم. وتقدم في سورة البقرة التعريف بالصابئين والمراد بالذين أشركوا كفار العرب خاصة. لأن المشركين في إطلاق التنزيل، بمثابة العلَم لهم.

.تفسير الآية رقم (18):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [18].
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} بيان لعظمته تعالى وانفراده بألوهيته وربوبيته. بانقياد هذه العوالم العظمى له، وجريها على وفق أمره وتدبيره. فالسجود فيها مستعار من معناه المتعارف، لمطاوعة الأشياء له تعالى، فيما يحدث فيها من أفعاله، يجريها عليه من تدبيره وتسخيره لها. ووجه الشبه الحصول على وفق الإرادة من غير امتناع منها فيهما. وقوله: {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} إما معطوف على ما قبله، إن جوز استعمال اللفظ المشترك في مفهوميه جميعاً، فيكون السجود في الجمادات الانقياد، وفي العقلاء العبادة. أو مبتدأ خبره محذوف. أو فاعل لمضمر، إن لم يجوز ذلك. وقوله تعالى: {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} أي: من الناس. أي: بكفره واستعصائه: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ} أي: بأن كتب عليه الشقاوة حسبما علمه من صرف اختياره إلى الشر: {فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} أي: يكرمه بالسعادة: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}.

.تفسير الآية رقم (19):

القول في تأويل قوله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} [19].
{هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} يعني فريق المؤمنين وفريق الكافرين المنقسم إلى الفرق الخمس المبينة في الآية قبل. والخصم في الأصل مصدر. ولذا يوحّد وينكر غالباً. ويستوي فيه الواحد المذكر وغيره ومعنى اختصموا في ربهم أي: في دينه وعبادته. والاختصام يشمل ما وقع أحياناً من التحاور الحقيقي بين أهل الأديان المذكورة، والمعنويّ. فإن اعتقاد كل من الفريقين بحقيّة ما هو عليه، وبطلان ما عليه صاحبه، وبناء أقواله وأفعاله عليه، خصومة للفريقين الآخر. وإن لم يجز بينهما التحاور والخصام. ثم أشار إلى فصل خصومتهم المذكور في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} بقوله سبحانه:: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ} أي: قدرت: {لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} أي: الماء الحارّ.

.تفسير الآيات (20- 24):

القول في تأويل قوله تعالى: {يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} [20- 24].
{يُصْهَرُ} أي: يذاب: {بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ} أي: من الأمعاء والأحشاء: {وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقَامِعُ} أي: سياط يضربون بها: {مِنْ حَدِيدٍ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} كما قال تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} [يونس: 10] و[إبراهيم: 23]، وقولهم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} [الزمر: 74]، {وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} أي: المحمود، وهو الجنة. أو الحق تعالى، المستحق لغاية الحمد.

.تفسير الآية رقم (25):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [25].
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أي: مكة: {الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ} أي: المقيم: {فِيهِ وَالْبَادِ} أي: الطارئ: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ} أي: بميل عن القصد: {بِظُلْمٍ} أي: بغير حق: {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} أي: جزاء على هتكه حرمته. ويشمل الإلحاد الإشراك ومنع الناس من عمارته، واقتراف الآثام. وتدل الآية على أن الواجب على من كان فيه، أن يضبط نفسه، ويسلك طريق السداد والعدل في جميع ما يهمّ به ويقصده. وقد ذهب بعض السلف إلى أن السيئة في الحرم أعظم منها في غيره، وأنها تضاعف فيه، وإن همّ بها فيه أخذ بها. ومفعول يرد إما محذوف، أي: يرد شيئاً أو مراداً ما، والباء للملابسة. أو هي زائدة وإلحاداً مفعوله. أو للتعدية لتضمينه معنى يلتبس. وبظلم حال مرادفة. أو بدل مما قبله، بإعادة الجار. أو صلة له. أي: ملحداً بسبب الظلم. وعلى كلّ، فهو مؤكد لما قبله. ومن قوله: {نُذِقْهُ} إلخ يؤخذ خبر إنَّ ويكون مقدراً بعد قوله: {وَالْبَادِ} مدلولاً عليه بآخر الآية، كما ارتضى ذلك أبو حيان في البحر. ثم أشار تعالى إلى تقريع وتوبيخ من عبد غيره وأشرك به في البقعة المباركة، التي أسست من أول يوم على توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، بقوله سبحانه:

.تفسير الآية رقم (26):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [26].
{وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} أي: واذكر إذ عيّناه وجعلناه له مباءة، أي: منزلاً ومرجعاً لعبادته تعالى وحده فأنْ في قوله تعالى: {أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً} مفسرة لـ: {بَوَّأْنَا} من حيث إنه متضمن لمعنى تعبدنا لأن التبوئة للعبادة. أي: فعلنا ذلك لئلا تشرك بي شيئاً: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} أي: من الأصنام والأوثان والأقذار: {لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} أي: لمن يطوف به ويقيم ويصلّي. أو المراد بالقائمين وما بعده: المصلين، ويكون عبّر عن الصلاة بأركانها، للدلالة على أن كل واحد منها مستقل باقتضاء ذلك، فكيف وقد اجتمعت؟.

.تفسير الآيات (27- 28):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [27- 28].
{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} أي: نَادِ فيهم به، قال الزمخشريّ: والنداء بالحج أن يقول: حجّوا، أو عليكم بالحج: {يَأْتُوكَ رِجَالاً} أي: مشاة، جمع راجل: {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} أي: ركباناً على كل بعير مهزول، أتعبه بُعد الشقة فهزله. والعدول عن ركباناً الأخصر، للدلالة على كثرة الآتين من الأماكن البعيدة، وقوله تعالى: {يَأْتِينَ} صفة لكل ضامر، لأنه في معنى الجمع. وقرئ {يأتون} صفة للرجال والركبان. أو استئناف، فيكون الضمير للناس: {مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} أي: طريق واسع بعيد: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} أي: ليحصروا منافع لهم دينية ودنيوية: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} أي: على ما ملكهم منها، وذلّلها لهم، ليجعلوها هدياً وضحايا. قال الزمخشريّ: كنى عن النحر والذبح، بذكر اسم الله. لأن أهل الإسلام لا ينفكون عن ذكر اسمه إذا نحروا أو ذبحوا. وفيه تنبيه على أن الغرض الأصليّ فيما يتقرب به إلى الله أن يذكر اسمه- زاد الرازيّ- وأن يخالَف المشركون في ذلك. فإنهم كانوا يذبحونها للنصُب والأوثان، قال القفال: وكأن المتقرب بها وبإراقة دمائها متصوّر بصورة من يفدي نفسه بما يعادلها. فكأنه يبذل تلك الشاة بدل مهجته، طلباً لمرضاة الله تعالى، واعترافاً بأن تقصيره كاد يستحق مهجته. والأيام المعلومات أيام العشر. أو يوم النحر وثلاثة أيام أو يومان بعده. أو يوم عرفة والنحر ويوم بعده. أقوال للأئمة.
قال ابن كثير: ويعضد الثاني والثالث قوله تعالى: {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} يعني به ذكر الله عند ذبحها. انتهى.
أقول: لا يبعد أن تكون على تعليلية، والمعنى: ليذكروا اسم الله وحده في تلك الأيام بحمده وشكره وتسبيحه، لأجل ما رزقهم من تلك البهم. فإنه هو الرزاق لها وحده والمتفضل عليهم بها: ولو شاء لحظرها عليهم ولجعلها أوابد متوحشة. وقد امتن عليهم بها في غير موضع من تنزيله الكريم. كقوله سبحانه: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يّس: 71- 72].
والسر في إفراده هذه النعمة، والتذكير بها دون غيرها من نعمه وأياديه، أن بها حياة العرب وقوام معاشهم. إذ منها طعامهم وشرابهم ولباسهم وأثاثهم وخباؤهم وركوبهم وجَمالهم. فلولا تفضله تعالى عليهم بتذليلها لهم، لما قامت لهم قائمة. لأن أرضهم ليست بذات زرع وما هم بأهل صناعة مشهورة، ولا جزيرتهم متحضرة متمدنة. ومن كانوا كذلك، فيجدر بهم أن يذكروا المتفضل عليهم بما يبقيهم، ويشكروه ويعرفوا له حقه. من عبادته وحده وتعظيم حرماته وشعائره. فالاعتبار بها من ذلك، موجب للاستكانة لرازقها، والخضوع له والخشية منه. نظير الآية- على ما ظهر لنا- قوله تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 3- 4]، هذا أولاً. وثانياً: قد يقال: إنما أفردت لتتبع بما هو البر الأعظم والخير الأجزل. وهو مواساة البؤساء منها. فإن ذلك من أجلّ ما يرضيه تعالى، ويثيب عليه. والله أعلم.
{فَكُلُوا مِنْهَا} أي: من لحومها. والأمر للندب. وإزاحة ما كان عليه أهل الجاهلية من التحرج فيه. وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نحر هديه، أمر من كل بدنة ببضعة فتطبخ، فأكل من لحمها، وحسا من مرقها.
وعن إبراهيم قال: كان المشركون لا يأكلون من ذبائحهم. فرخص للمسلمين فمن شاء أكل ومن شاء لم يأكل.
قال في الإكليل: والأمر للاستحباب حيث لم يكن الدم واجباً بإطعام الفقراء. وأباح مالك الأكل من الهدى الواجب، إلا جزاء الصيد والأذى والنذر، وأباحه أحمد، إلا من جزاء الصيد والنذر. وأباح الحسن الأكل من الجميع تمسكاً بعموم الآية. وذهب قوم إلى أن الأكل من الأضحية واجب، لظاهر الأمر. وقومٌ إلى أن التصدق منها ندب، وحملوا الأمر عليه. ولا تحديد فيما يؤكل أو يتصدق به، لإطلاق الآية. انتهى.
{وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ} أي: الذي أصابه بؤس: أي: شدة: {الْفَقِيرَ} أي: الذي أضعفه الإعسار، والأمر هنا للوجوب. وقد قيل به في الأول أيضاً.